كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن، ومن نوره، ومن فرقانه، ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل. ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان، لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان!
لقد عاشوا بهذا القرآن، وعاشوا له كذلك.. ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر- بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى- في التاريخ كله.. اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب!
لقد خلصوا لهذا القرآن فترة طويلة من الزمان، فلم تشب نبعه الرائق شائبة من قول البشر، اللهم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه.. وقد كان من نبع القرآن ذاته كذلك.. ومن ثم كان ذلك الجيل المتفرد ما كان.
وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه، فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان، لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان!
ثم جولة جديدة في قضية التوحيد. تأخذ في أولها صورة القصة، لتصوير خطوات الانحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس. وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم.
ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير. وتختم بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده، وليه وناصره:
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملًا خفيفًا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون}.
{وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}..
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال؛ ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى؛ وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد!
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملًا خفيفًا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين}..
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. أن يتوجهوا إلى الله ربهم، معترفين له بالربوبية الخالصة، عند الخوف وعند الطمع.. والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة، وتركيب الزوجية وطبيعتها:
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}..
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى. وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها.. وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان. ووظيفة الزوجية في تكوينه. وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرنًا. يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني، وتعتبرها لعنة ونجسًا وفخًا للغواية تحذر منه تحذيرًا شديدًا، ويوم أن كانت الوثنيات- ولا تزال- تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادمًا أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق.
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار. ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب، وينتج فيه المحصول البشري الثمين.
ويؤهل فيه الجيل الناشيء لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه. ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة. كما أنه لم يجعله شقاقًا ونزاعًا، وتعارضًا بين الاختصاصات والوظائف، أو تكرارًا للاختصاصات والوظائف؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء!
وبعد ذلك تبدأ القصة.. تبدأ من المرحلة الأولى..
{فلما تغشاها حملت حملًا خفيفًا فمرت به}..
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين.. {فلما تغشاها}.. تنسيقًا لصورة المباشرة مع جو السكن؛ وترقيقًا لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين. إيحاء للإنسان بالصورة الإنسانية في المباشرة. وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة!.. كذلك تصوير الحمل في أول أمره.. {خفيفًا}.. تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه.
ثم تأتي المرحلة الثانية:
{فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين}..
لقد تبين الحمل، وتعلقت به قلوب الزوجين، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليمًا صحيحًا صبوحًا. إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب.. وعند الطمع تستيقظ الفطرة، فتتوجه إلى الله، تعترف له بالربوبية وحده، وتطمع في فضله وحده، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود. لذلك {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين}..
{فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون}..
إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء.. إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين. فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها عبد الحارث.. والحارث اسم لإبليس. ليولد صحيحًا ويعيش؛ ففعلت وأغرت آدم معها! وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي.. ذلك أن التصور الإسرائيلي المسيحي- كما حرفوا ديانتهم- هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء، وهو مخالف تمامًا للتصور الإسلامي الصحيح.
ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني.. فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية.. ولقد كان المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله، ينذرون بعض أبنائهم للآلهة، أو لخدمة معابد الآلهة! تقربًا وزلفى إلى الله! ومع توجههم في أول الأمر لله، فإنهم بعد دحرجة من قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون لهذه الآلهة أبناءهم لتعيش وتصح وتوقى المخاطر! كما يجعل الناس اليوم نصيبًا في أبدان أبنائهم للأولياء والقديسين. كأن يستبقوا شعر الغلام لا يحلق أول مرة إلا على ضريح ولي أو قديس. أو أن يستبقوه بلا ختان حتى يختن هناك. مع أن هؤلاء الناس اليوم يعترفون بالله الواحد.
ثم يتبعون هذا الاعتراف بهذه الاتجاهات المشركة. والناس هم الناس!
{فتعالى الله عما يشركون}.
وتنزه عن الشرك الذي يعتقدون ويزاولون!
على أننا نرى في زماننا هذا صنوفًا وألوانًا من الشرك؛ ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له، ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص.
إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها القوم ويسمونها الوطن، ويسمونها الشعب.. إلى آخر ما يسمون. وهي لا تعدو أن تكون أصنامًا غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون. ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله سبحانه في خلقه، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع!
إن الناس يعترفون بالله ربا. ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهريًا، بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها مقدسة. تخالف في سبيلها أوامر الله وشرائعه، بل تنبذ نبذًا. فكيف تكون الآلهة؟ وكيف يكون الشرك؟. وكيف يكون نصيب الشركاء في الأبناء.. إن لم يكن هو هذا الذي تزاوله الجاهلية الحديثة!!
ولقد كانت الجاهلية القديمة أكثر أدبًا مع الله.. لقد كانت تتخذ من دونه آلهة تقدم لها هذه التقدمات من الشرك في الأبناء والثمار والذبائح لتقرب الناس من الله زلفى! فكان الله في حسها هو الأعلى. فأما الجاهلية الحديثة فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله عندها. فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة وتنبذ ما يأمر به الله نبذًا!
إننا نخدع أنفسنا حين نقف بالوثنية عند الشكل الساذج للأصنام والآلهة القديمة، والشعائر التي كان الناس يزاولونها في عبادتها واتخاذها شفعاء عند الله.. إن شكل الأصنام والوثنية فقط هو الذي تغير. كما أن الشعائر هي التي تعقدت، واتخذت لها عنوانات جديدة.. أما طبيعة الشرك وحقيقته فهي القائمة من وراء الأشكال والشعائر المتغيرة..
وهذا ما ينبغي ألا يخدعنا عن الحقيقة!
إن الله سبحانه يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة. ولكن الوطن أو الإنتاج يأمر بأن تخرج المرأة وتتبرج وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق في صورة فتيات الجيشا في اليابان الوثنية! فمن الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه؟ أم إنها الآلهة المدعاة؟
إن الله سبحانه يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة.. ولكن القومية أو الوطن يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع؛ وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة!.. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة؟!
إن الله سبحانه يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة. ولكن عبدًا من العبيد- أو مجموعة من الشعب- تقول: كلا! إن العبيد هم الذين يشرعون وشريعتهم هي الحاكمة.
فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة؟!
إنها أمثلة لما يجري في الأرض كلها اليوم؛ ولما تتعارف عليه البشرية الضالة.. أمثلة تكشف عن حقيقة الوثنية السائدة، وحقيقة الأصنام المعبودة، المقامة اليوم بديلًا من تلك الوثنية الصريحة، ومن تلك الأصنام المنظورة! ويجب ألا تخدعنا الأشكال المتغيرة للوثنية والشرك عن حقيقتها الثابتة!!!
ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة، وتلك الجاهلية الصريحة؛ ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري- أيًا كانت طفولته- فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم، وصور فيه مدارج الشرك في النفس:
{أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون}..
إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد! وآلهتهم المدعاة- كلها- لا تخلق شيئًا بل هي تخلق! فكيف يشركون بها؟ كيف يجعلون لها شركًا مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد. فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية.. وآلهتهم المدعاة- كلها- لا قوة لها ولا سلطان؛ فهم لا يستطيعون نصرهم، ولانصر أنفسهم؛ فكيف يجعلون لها شركًا مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة، فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة! إنهم يقيمون لهم أصنامًا أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به؛ ويجعلون لها شركًا في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم.. فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئًا؟ ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصرًا؟